المحامي خالد حسين الشطي
|
|
بين يدي قضية غريبة، ظننتها أول الأمر قضية نزاع على ميراث، لكن أوراق الملف وتتابع الأحداث كشف ما هو أعظم وأخطر. نشأت «ف.م» فتاة كاملة الأوصاف، وحيدة والديها، ماتت أُمها وهي طفلة صغيرة، خلّفتها بين ضرائر حرمهن الله الولد والخلف.
هكذا ترعرعت «ف.م» في بيت هو مجمع أضداد وملتقى تناقضات.. فهو من جهة بيت عز ومجد وقمة في كل شيء، قيادة وزعامة، عطاء وبذل، وكل كمال يمكن أن يتصوره الإنسان، ومن جهة أخرى ضمَّ مجتمعا تركّبت فيه العقد وترسخ العداء، من فرط ما يولي الوالد العظيم ابنته المحبة، ويؤثرها عليهن، ويقدّم ذكر والدتها الراحلة ويترحم عليها ويثني على مواقفها ودورها في دعمه وإسناده، أول نشأته، ثم في هبته ابنته الغالية. يتمت «ف.م» صغيرة.. وقد عوَّضها عطاء الأب، ثم مقامه ومنزلته الكبيرة بين الناس، ما فقدت من حنان الأم، وكانت لها فيه سلوة وعزاء، فهي ابنة «الكبير»، الذي تخشع الأصوات على بابه، وتذل الجبابرة على أعتابه.
كان الأب الحكيم يشعر بما تضمره الظلمات والليالي لابنته، ويلمس درجة حقدهن وكراهيتهن، لذا احترز من صروف الدهر وغدر الزمان، وما قد يجري على أملاكه بعد وفاته، خاصة لسطوة القبائل ونفوذ العوائل.. فوَهب في حياته ابنته وأقطعها أراضي شاسعة، تشتمل على بساتين مثمرة، وعيون متفجرة، يغنيها مردودها الوفير ويكفيها حياتها كلها، تعيشها منعمة مكرمة، هي وذريتها ومن أحبت وعز عليها.
لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.. توفي الوالد، وقسمت التركة، وانتهبت الأرض، زعماً أنها لم تسجل في الوصية! احتجت «ف.م» أول الأمر بأنها نِحلة، وَهبها والدها في حياته، فهي خارج التركة، فلما أبطلت الشهادات وطعن بالأوراق والمستندات لعدم توثيقها، طالبت بها كحق من الميراث. وما زالت القضية منظورة أمام المحاكم، في دولة أخرى «حيث الأرض».
تطوَّرت القضية، إذ رفعت السلطة دعاوى تشهير وطعن في الذمم! فلم يعد لـ «ف.م» أن تطالب بحقها. وما زالوا وراءها، يلاحقونها ويتابعونها، حتى منعوها من جميع صور الاعتراض، حتى البكاء، يقولون إنها تزعجهم ببكائها الذي لم ينقطع على والدها، ثم لما أفرد لها زوجها داراً، تنأى بها بعيداً عن «إزعاجهم» وإقلاق راحتهم، لم تسلم من الملاحقة، إذ سجلوا بكاءها في التحريض على العنف وتأليب الأجواء ضدهم. لا يجوز أن تبكي، فالبكاء يعني الاعتراض، ويتضمن التهمة، وقد حكمت المحكمة ببراءتهم، وأي اعتراض هو خدش بالقضاء، مسٌّ بحرمته وعظيم منزلته. كما لا يجوز أن تحكي قصتها ولا أن تروي ظلامتها، فهي- بهذا -تشق عصا العائلة وتزرع الفرقة والاختلاف في البيت الواحد! وقد حظر على جميع الكتاب والقصاص والأدباء والشعراء والصحافيين، أن يتناولوا الموضوع في أعمالهم الفنية والأدبية، ولو على نحو العرض العلمي الموضوعي المحايد! هذه القصة لم تقع في موسكو الاتحاد السوفياتي الغابر، حيث النظام الشمولي، وأجهزة الراديو ذات الموجة الواحدة، ولا على يد الدكتاتور بينوشيه وحكومته العسكرية في تشيلي، ولا في كولومبيا تحت سطوة كارتيلات وعصابات المخدرات، ولا في سلطة مافيا صقلية التي ازدهرت في أوائل القرن الماضي عند هجرتها إلى الولايات المتحدة… بل في بلاد تدعي الالتزام بأعظم دين، ومجتمع يدين بأكثر الشرايع سماحة وعدالة.
ما زالت «ف.م» تجول على المحاكم وتدور على المآتم، تدوّن أسماء من يشاركها مصابها، وتسجل من انتصر لظلامتها. ****
|