الوقتُ ضُحيً.. وسادةُ قريشٍ يَتَوافَدونَ إلى النادي، الواحدَ تِلْوَ الآخَر، ولا حديثَ لَهُم إلاّ هذا الدينُ الجديدُ الَّذي أَتاهُم به مُحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم. وَيَكتَمِلُ الجَمْعُ بأبي جَهلٍ يَدخُلُ الناديَ، سَاحِباً رِداءَ هُ، شامِخاً بِعُنُقِهِ، ويُلِقي على الجَمْعِ المُحتَشِدِ تَحيَّةً عَجْلي، ويأخُذُ مكانهُ في وَسَطِ بَني مَخْزوم، وتُلاحِقُهُ عُيونُ الحاضرينَ، فَما لأبي جهلٍ مُقَطِّب الجَبينِ، مُكفَهِرّ الوجهِ، غاضِب ؟!
وَيتنفّسُ طاغِيَةُ قُرَيشٍ الصُّعَداء، .. وَقد عَلِمَ أَنَّ القَومَ يَشعُرونَ بِما تَنطَوي عليه ضُلوعُهُ من غَضَبٍ دَفينٍ وحِقدٍ مكبوتٍ وَحَنَقٍ جامِحٍ، فَيُبادِرُهُم بِلهجَتِهِ الصاخِبَةِ، و كأنَّهُ البَعيرُ الهَائِج:
ـ إنَّ محمّداً هذا لَن يَدَعَنا وَشأنَنَا، حَتَّى يَكونَ بَينَنا وَبَيْنَهُ شَرٌّ مُستَطير.
لقَد لَقِيتُة منذُ قليلٍ وأنا في طريقي إليكُم، فَنِلْتُ مِنهُ ومِنْ دِينِهِ الجَديد.
ـ وَماذَا كَانَ رَدُّهُ عَلَيكَ يا أَبا الحَكَم ؟
ـ وَبِمَ عَساهُ يَرُدُّ؟! لاذَ بالصَّمت، وَلا جَوابَ!
ـ أيَّدَتْكَ آلِهَةُ مَكَّةَ كُلُّها يا سيّدَ قَرَيشٍ، وحَماكَ هُبَل!
ويَخوضُ القَوم في هذا الحَديثِ، ويَتَشَعَّبُ الكَلامُ فيه، إنَّهُ حديثُ قُرَيشٍ كُلِّها لَيلَ نَهَار..
* * *
ـ يَا أبا عُمارَة، يا أبا عُمارَة!
وَيَنتَفِضُ حَمزَةُ لِصَوتِ امرأةٍ تُنَاديه، وقد قَطَعَتْ عَلَيهِ حَبلَ تَفكيرِه، وَهُوَ عائِدٌ منَ القَنْص.
وَيَلتَفِتُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، مُوقِفاً جَوادَهُ المَنهوكَ، ويَتَطلَّعُ حَيثُ الصوتُ، جِهَةَ الصَّفا:
ـ مَن المُنادي؟
ـ أنا يا حَمزَة، تَرَيَّثْ قَليلاً، سآتيك..
وَيَنتَظِرُها، إنَّها مَولاةُ عبدِاللهِ بنِ جَدْعانَ، تَنحَدِرُ إليه مِن مَسكَنِها فَوقَ الصَّفا.
تُرَى مَاذا تُريدُ منهُ، لَعلَّها تَحمِلُ إليهِ خَبَراً، أو لَعلَّ أمراً دَهاها فهِيَ بِهِ تَستَغِيث.
ـ مَا بِكِ ؟.. هيَّا!..
وَبِلَهجَةٍ يَمتَزِجُ فيها الحُزنُ والاضطِرابُ، تُجيبُ بِصَوتٍ مُتَهَدِّج:
ـ لَوْ رأَيْتَ يَا حَمزَةُ، مَا لَقِيَ ابنُ أَخيكَ محمّدٌ مِن (أبي جَهلٍ)، آنِفاً!.. (أي سابقاً) وَجَدَهُ هاهُنَا، فآذاهُ وَشَتَمَهُ، وَبَلَغَ ما يَكْرَهُ، ثمّ انصَرَفَ عنهُ وَلَم يُكَلِّمْهُ مُحَمَّد.
ـ أَحَقّاً ما تَقولين؟
- إي والله، بِعَينَيَّ هَاتينِ شاهَدْتُ، وبِأُذُنَيَّ هاتَينِ سَمِعْتُ.
فَتَحْمَرُّ عَينا حَمزَةَ لِمَا يَسمَعُ، وَيُسَيطرُ عَلَيهِ الغَضَبُ، فيَهْمِزُ جَوادَهُ.. وكالرِّيحِ العاصِفَةِ، وكالزَّلْزالِ المُدَمِّر ـ يَتَّجِهُ لِتوِّه ( أي: حالاً ) إلى نادي قُرَيشٍ في المَسجِدِ، فالوَيْلُ لِمَن نَالَ مِن ابنِ أخيهِ مُحَمَّدٍ، كائناً مَن كَانَ أيؤْذَى مُحَمَّدٌ وَيَسكُتُ عَن ذَلِك ؟
واللهِ إِنَّ ذلكَ لَن يكونَ أبداً!
وَكَانَ مِن عَادةِ حَمزَةَ عِندَما يَعودُ من القَنصِ، أن يَطوفَ بالكَعبَةِ قَبلَ دُخُولِهِ مَنزِلَهُ، فَيَمرَّ على نادي قريشٍ مَسَلِّماً عليهم و مُتَحَدِّثاً إليهم، فهُوَ أعَزُّ قُريشٍ وأشَدُّها شَكِيمَةً، وكانَ حَتَّى يَومَئِذٍ يُخفي إيمانَه، ويَتظاهرُ أنّه على دِينِ قَرَيش.
ولكنَّهُ هذَا اليَومَ غَيَّرَ من عادَتِهِ؛ فَلَم يَطُفْ بالكَعبَةِ كَما كَانَ يَفْعَلُ دائماً.. ولم يُسَلِّمْ عَلى من صَادَفَهُ في طريقِهِ..
إنَّهُ يَمتَطِي جَوَادَه، وَ رِجلاَهُ تَخُطَّانَ علَى الأرضِ، وَكَأَنَّهُ قِطَعَةٌ مِن جَبَل. وَيَتَرجَّلُ حَمزَةُ عَن جَوَادِهِ، أمامَ المَسجِدِ، وَيَدخُلُ وقد عَلَتْ الأصواتُ، وارتَفَعَتْ القَهقَهاتُ، فَيسكُتونَ!
وَبِعَينَينِ تَقدَحَانِ شَرَراً يَتَفَرَّسُ في الوُجوهِ مُحَدِّقاً.
وَيُهَمهِمُ بَعضُهم: إنَّ أمرَ ابنِ عَبدِ المُطَّلِبِ اليومَ لَمُرِيب!..
وَيَتَقَدَّمُ حَمزةُ إلى صدْرِ المجلِسِ، حَيثُ استقَّرَ أَبوجهلٍ وقدْ اكتَنَفَهُ رِجالٌ مِن بَني مَخزوم، وَيَهوي بِقَوسٍ في يدِهِ عَلَى رأسِ أبي جَهلٍ فَيَشِجُّهُ، رَافِعاً صوتَه مُجَلجِلاً بالتحدّي:
أَتشتُمُ محَمداً وَتَسُبُّهُ ؟! أنا أشهَدُ أنَّهُ رَسولُ الله، وأنا علَى دِينِه أقولُ ما يقولُ، وإنَّ الَّذي يقولُ هو الحقّ، فَرُدَّ عَلَيَّ ذلك إنِ استَطَعتَ!.
وَ يُتابِع، مُلتَفِتاً إلى الرِّجال المُتَحفِّزينَ حَولَهُ:
ـ وامنَعوني إن كنتُم صادقين!
ويُخَضِّبُ الدَّمُ رَأسَ أبي جَهلٍ وَوَجهَهُ وَلِحيَتَهُ، فَيُصبِحُ كالشَّيطانِ الرَّجيم!
وتعلو الأصواتُ، ويَختَلِط بعضُها بِبَعض.
ويقومُ بعضُ بني مَخزوم لِينصرُوا أبا جهلٍ في المجلس.. وتكادُ تَقَعُ فِتنَةٌ ويثورُ شرٌّ عظيمٌ لولا أن وَقَفَ أبوجَهلٍ مَشِيراً بيديه إلَى مَن حَولَهُ وَهو يقولُ لَهُم بصوتٍ كالفَحيح:
ـ إيه يا قومُ! دَعُوا أبا عُمارةَ، فَإِنّي واللهِ قَد سَبَبتُ ابنَ أخيهِ سَبّاً قَبيحاً.
فَيَهدَأون، ويَنْسَحِبونَ من المَجلِسِ تِباعاً، وهم يُتَمتِمونَ بِوُجوم:
ـ اليومَ عزَّ محمدٌ وامتَنَعَ!
وَهكذا يَنصُر اللهُ تعالى الإسلامَ بِسَيفِ حَمزة، وَشَجاعَتِه.
فَتَكُفُّ قَرَيشٌ يَدَهَا عن النَّبيِّ، وقد أيَّدَهُ اللهُ بَنَصرِه، وَبِسَيفَينِ لاَيَقِفُ بوجهِهِما شيءٌ: سيفِ عليٍّ ذي الفَقَارِ، وسيفِ حمزةَ تَلتَمِعُ شَفرَتُهُ كَشُعلةٍ مِن نار!..
* * *
وَتَرَى قريشٌ في إسلامِ حَمزَةَ مَرحَلَةً مَتَقَدِّمةً جِدّاً للدّينِ الجَديد.
فَرِجالاتُ قريشٍ يَعرِفونَ حَمزَةَ جَيّداً: أنهُ الطِّيبُ ابنُ الطَّيِّبينَ، والشريفُ ابنُ الأشراف.
أبوهُ: عَبدُالمُطَّلِب بنُ هاشم.
وامُّهُ هالَةُ بنتُ وَهيبِ بنِ عبدِ مَنافٍ، ابنَةُ عَمّ آمِنَةَ بِنتِ وَهَبٍ.
وهو شقيقُ صَفِيَّةَ بِنتِ عَبد المُطّلِب أُمِّ الزُبيرِ.
وَهُوَ عَمُّ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأخوهُ منَ الرَّضاعَةِ، وقد أَرضَعَتْهُما ثُوَيبةُ مَولاةُ أبي لَهَب وما مَعني هذا ؟
هَذا يُشِيرُ إلى أَنَّ العَلاقة بَينَ حَمزَة والنبيِ، كَانَتْ عَلاقَةَ الأخِ بأخيهِ أكثرَ مَمَّا هي علاقَةُ الفتى بَعَمِّه. إذ أَنَّ حَمزَةَ كَانَ يَكبُرُ النَّبِيَّ بِسَنَتَينِ فَقَط، فَيَومَ خَطَبَ النبيُّ خَديجَةَ كَانَ عُمُرُه الشريفُ خَمسةً وعشرين عاماً حينَدَاكَ، وَقد خَطَبَها له أعمامُهُ، وحمزةُ منهُم، وَكَان عُمُرُ حمزة إذ ذَاكَ سَبَعَةً وعشرينَ عاماً فَهو، والحالَةُ هذهِ، أقرَبُ النَّاسِ صِلةً بمشاعِرِ النَّبيِّ وأَحَاسِيسِه.
وَيبدَأُ نَجمُ حَمزَةَ بالصُّعودِ لامِعَاً، مُتَلأْلِئاً، مُتَألِّقاً، وقَد انخَرَطَ في سِلْكِ المُسلمين المجاهدين، لَهُ مَا لَهُم، وعليه ما عليهِم.
كما هَاجَرَ مَع المهاجرِينَ إلى المَدينَةِ.
وَيَومَ وَقَفَ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم للمُؤَاخاةِ بَينَ المُهاجِريِنَ وَالأنصارِ.. كانَ يُحيطَ بِهِ عليٌّ عليه السّلام من جِهَة، وَعَمُّه حَمزَةُ من جِهةٍ ثانِيَة.. وَيُشير الرَّسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المسلمينَ: مُهَاجِرينَ وأنصاراً، بِالاقتِراب، فَيَقتَرِبون.
ويقولُ لهم: « تآخَوا فِي اللهِ أخَوَين أَخَوَينِ ».
وَيأخُذ بيدِ عليٍ قائلاً: « هذا أَخي ».
هذا أخي!.. الله، الله!.. بارَكَ اللهُ لَكَ ولنا هذِه النِّعمَةَ يا أبا الحَسَن! ويُدني حَمزَةَ مِنهُ قائِلاً:
« إنّ حَمزَةَ بنَ عبدِ المُطّلِب أَسدَ الله، وزَيدَ بنَ حارِثَةَ مَولَى رسولِ الله، أخَوَان ». وَيَزدَادُ نَجمُ حَمزةَ رضي الله عنه صُعوداً!
* * *
يَروي المؤرِّخونَ أنَّ أوَّلَ لِواءٍ ـ وكانَ أبيضَ اللَّونِ ـ عَقَدَهُ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانَ لِحَمزَةَ، وقد بَعَثَهُ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم علَى رأسِ ثَلاثينَ مِن رجالِهِ إلى ساحِلِ البَحر، لاعْتِراضِ قافلةٍ لِقُريش يَقُودُها أبوجهل، وَمَعَهُ ثَلاثُمِئَةِ رَجُل.
ثلاثونَ يَقفونَ أمامَ ثلاثِمِئَةٍ، يتَحدَّونَهُم!..
وتَرتَعِد فَرائصُ أبي جَهلٍ ( أي: يرتجف خوفاً )، وقَد انتَصَبَ أمَامَهُ حَمزَةُ كالعِملاقِ عَلَي رأسِ رِجَالِهِ الثّلاثينَ المُتَوثّبينَ للانقضاض ( أي للهجوم )، وبحركةٍ عَفويّةٍ تمتّد يَمينُ أبي جهل إلى رأسِهِ، فآثارُ ضَربَةِ حَمزَةَ بالقَوسِ لازالَتْ واضِحَةً، فيزدَادُ رُعباً!
ويشاءُ اللهُ ألاَّ تدَورَ بين الطرفينِ مَعركَة.
وَكَفي اللهُ المؤمِنينَ القِتالَ!
وَيشهَدُ حمزَةُ مَواقِعَ أخرى.. يصول فيها صَولَةَ الأسد الهَصُورِ، ويَنقضُّ انقِضاضَ الصَّقر..
وَيفِرُّ الفُرسانُ أمَامَ هَذَا البَطَلِ المِغوَارِ، والفارِسِ الكرَّارِ، المُعْلَم بريشَةِ نَعامةٍ حمراءَ في خوذَتِهِ وَعلى صَدرِهِ. فريشَةُ النَّعامَةِ هذِهِ شِعارُه في الحَربِ، وَعَلامَةٌ يُعْرَفَ بِها بينَ الفُرسان.
* * *
هاهَوَذا حَمزَةُ في معركَةِ بدرٍ..
إِنَّهُ يَفتَتِحُ المَعركة، وَيَتَصَدّى لبطلِ قُريشٍ الأسودِ المَخزوميِّ، ويُجهِزُ عَليه (أي: يَقتلُه). إنَّها باكورَةُ « مَوقعةِ بدرٍ الكبرى »!..
وَيَخرُجُ عُتبَةُ بنُ رَبيعةَ بينَ أَخِيهِ شَيبَةَ وابنهِ الوليدِ، مِن بَينِ صُفوفِ قَرَيشٍ، مُبَارِزينَ.
فَيَخرُجُ إلَيهِمْ ثَلاَثَةُ فِتيةٍ من الأنصَار.
وَيَرفُضُ الأبطالُ القرَشِيّون الثلاثَةُ مُبَارَزَةَ الفِتيةِ الأنصار؛ فهؤلاء الفِتيَانُ لَيسوا بالأكْفاءِ أمَامُ أبطالِ قُرَيشٍ، السَّادَةِ العِظام!