روايات التحريف في كتب السنة
أولاً: مذهب أهل السنة يصون القرآن من التحريف[1][1]
إنّ المعروف من مذهب أهل السُنّة هو تنزيه القرآن الكريم عن الخطأ والنقصان، وصيانته عن التحريف، وبذلك صرّحوا في تفاسيرهم وفي كتب علوم القرآن، إلاّ أنّه رويت في صحاحهم أحاديث يدلّ ظاهرها على التحريف، تمسّك بها الحشوية منهم، فذهبوا إلى وقوع التحريف في القرآن تغييراً أو نقصاناً، كما أشار الى ذلك الطبرسي في مقدمة تفسيره [2][2]، وقد تقدّم قوله في تصريحات أعلام الإمامية.
ولا شكّ أنّ ما كان ضعيفاً من هذه الأحاديث فهو خارج عن دائرة البحث، وأمّا التي صحّت عندهم سنداً، فهي أخبار آحاد، ولا يثبت القرآن بخبر الواحد، على أنّ بعضها محمولٌ على التفسير، أو الدعاء ، أو السُنّة، أو الحديث القدسي، أو اختلاف القراءة، وأمّا ما لا يمكن تأويله على بعض الوجوه، فقد حمله بعضهم على نسخ التلاوة، أي قالوا بنسخه لفظاً وبقائه حكماً، وهذا الحمل باطلٌ، وهو تكريسٌ للقول بالتحريف. ونفاه بعضهم، وذهبوا إلى تكذيب وبطلان هذه الأحاديث لاستلزامها للباطل، إذ أنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن العظيم.
يقول عبد الرحمن الجزيري: (أما الأخبار التي فيها أن بعض القرآن المتواتر ليس منه، أو أنّ بعضاً منه قد حُذف، فالواجب على كل مسلم تكذيبها بتاتاً، والدعاء على راويها بسوء المصير)[3][3].
ويقول ابن الخطيب: (على أن هذه الأحاديث وأمثالها ، سواء صحّ سندها أو لم يصحّ فهي ـ على ضعفها وظهور بطلانها ـ قلّةٌ لا يُعتدّ بها، ما دام إلى جانبها إجماع الاُمّة، وتظاهر الأحاديث الصحيحة التي تدمغها وتظهر أغراض الدين والمشرع بأجلى مظاهرها)[4][4].
وجماعة منهم قالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها من قبل أعداء الإسلام المتربّصين به، يقول الحكيم الترمذي: (ما أرى مثل هذه الروايات إلاّ من كيد الزنادقة).
ويقول الدكتور مصطفى زيد: (وأما الآثار التي يحتجّون بها.. فمعظمها مروي عن عمر وعائشة، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار بالرغم من ورودها في الكتب الصحاح، وفي بعض هذه الروايات جاءت العبارات التي لا تتّفق ومكانة عمر وعائشة ، ممّا يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسّها على المسلمين)[5][5]
ثانياً: السنة ونسخ التلاوة
هذا وإن وافق أهل السنة ما ذهب إليه الإمامية في صيانة القرآن الكريم من التحريف إلا أن الكلام في تخريجهم الفني لروايات التحريف. فمع ورود روايات التحريف في صحاح أهل السنة، صار أهل السنة بين مأزقين، فإما التسليم بروايات التحريف والحكم عليها بالصحة مما يعني تحريف القرآن، وإما الطعن في صحة الروايات وتكذيبها مما يستلزم الطعن في صحاحهم التي لا تصل إليها أظافر الخدشة.
ولذلك ذهب بعضهم لعلاج بعض الروايات الواردة في شأن التحريف بحملها على نسخ التلاوة. حيث أنهم قسموا النسخ في الكتاب العزيز إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نسخ الحكم دون التلاوة، وهذا هو القسم الذي نطق به محكم التنزيل، وهو المشهور بين العلماء والمفسرين، وهو أمر معقول مقبول، حيث إنّ الأحكام لم تنزل دفعة واحدة، بل نزلت تدريجياً لتألفها النفوس وتستسيغها العقول، فنسخت تلك الأحكام وبقيت ألفاظها، لأسرار تربوية وتشريعية، يعلمها الله تعالى.
القسم الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم، وقد مثّلوا له بآية الرجم، فقالوا: إنّ هذه الآية كانت من القرآن ثمّ نسخت تلاوتها وبقي حكمها. وستأتي الإشارة إلى روايات آية الرجم المزعومة.
القسم الثالث: نسخ التلاوة والحكم معاً، وقد مثّلوا له بآية الرضاع. وستأتي الإشارة إليها.
ولهذا حمل بعضهم الروايات التي دلت على نقصان بعض آيات الكتاب، على أن تلك الآيات نسخت تلاوتها وبقيت أحكامها، أو نسخت تلاوة وحكماً، وذلك تحاشياً من التسليم بها الذي يفضي إلى القول بتحريف القرآن، وفراراً من ردّها وتكذيبها الذي يؤول إلى الطعن في الكتب الصحاح و المسانيد المعتبرة، أو الطعن في الأعيان الذين نُقلت عنهم. هذا وإن كان بعضهم لم يقبل ما سمي بنسخ التلاوة.
وقفة مع نسخ التلاوة
ولا شكّ أن القسمين الأخيرين من النسخ هو عين القول بالتحريف: وهو باطل لما يلي:
الأمر الأول: يستحيل عقلاً أن يرد النسخ على اللفظ دون الحكم، لأنّ الحكم لا بدّ له من لفظ يدل عليه، فإذا رفع اللفظ ما هو الدليل الذي يدلّ عليه؟ فالحكم تابع للفظ، ولا يمكن أن يرفع الأصل ويبقى التابع.
الأمر الثاني: النسخ حكم، والحكم لابدّ أن يكون بالنصّ، ولا انفكاك بينهما، ولا دليل على نسخ النصوص التي حكتها الآثار المتقدّمة وسواها، إذ لم ينقل نسخها ولم يرد في حديث عن النبي(صلى الله عليه وآله)في واحد منها أنّها منسوخة، والواجب يقتضي أن يبلّغ الاُمّة بالنسخ كما بلّغ بالنزول، وبما أنّ ذلك لم يحدث فالقول به باطل.
ثالثاً: نماذج من روايات التحريف في كتب أهل السنّة والجواب عليها
نذكر هنا جملة من الروايات الموجودة في كتب أهل السنّة، ونبيّن ما ورد في تأويلها، وما قيل في بطلانها وإنكارها، وعلى هذه النماذج يقاس ما سواها، وهي على عدة طوائف نذكر منها طائفتين:
الطائفة الاُولى:
الروايات التي ذكرت سوراً أو آيات زُعِم أنها كانت من القرآن وحُذِفت منه، أو زعم البعض نسخ تلاوتها، أو أكلها الداجن، نذكر منها:
الف ـ الآيات والسور
1 ـ أنّ سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة:
رُوي عن عمر واُبي بن كعب وعكرمة مولى ابن عباس: )أنّ سورة الأحزاب كانت تقارب سورة البقرة، أو هي أطول منها، وفيها كانت آية الرجم).[6][6]
وعن حذيفة : (قرأتُ سورة الأحزاب على النبي(صلى الله عليه وآله)فنسيتُ منها سبعين آية ما وجدتها[7][7](
وقد حمل ابن الصلاح المدّعى زيادته على التفسير، وحمله السيوطي وابن حزم على نسخ التلاوة، والمتأمّل لهذه الروايات يلاحظ وجود اختلاف فاحش بينها في مقدار ما كانت عليه سورة الأحزاب، الأمر الذي يشير إلى عدم صحّة هذه النصوص وبطلانها.
2 ـ لو كان لابن آدم واديان...
رُوي عن أبي موسى الأشعري أنّه قال لقرّاء البصرة: «كنّا نقرأ سورة نُشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فانسيتها، غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب)[8][8]
وقد حمل ابن الصلاح هذا الحديث على السنّة، قال: «إنّ هذا معروف في حديث النبي(صلى الله عليه وآله)، على أ نّه من كلام الرسول، لا يحكيه عن ربّ العالمين في القرآن، ويؤيّده حديث روي عن العباس بن سهل، قال: سمعت ابن الزبير على المنبر يقول: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لو أنّ ابن آدم اُعطي واديان...» وعدّه ال**يدي الحديث الرابع والأربعين من الأحاديث المتواترة وقال: (رواه من الصحابة خمسة عشر نفساً)[9][9]» ورواه أحمد في المسند عن أبي واقد الليثي على أنّه حديث قدسيّ[10][10].
أمّا إخبار أبي موسى بأنّه كان ثمّة سورة تشبه براءة في الشدّة والطول، فلو كانت لحصل العلم بها، ولما غفل عنها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والصحابة وكُتّاب الوحي وحُفّاظه وقُرّاؤه.